يقولون إن “القرآن حمال أوجه” ويذهب المتصوفة إلى أن هناك أربعة مستويات لفهم القرآن الكريم يتمثل المستوى الأول في المعنى الظاهرى وهو المعنى الذي يقتنع به معظم الناس، ثم يأتي المستوى الباطني. وفي المستوى الثالث يأتي باطن الباطن، أما المستوى الرابع فهو العمق. وأن القراءة بآياته دون تدبر ربما تتسب في البعد عن الغاية الحقيقية منها والتي هي روح القرآن .
يقول الله في سورة آل عمران ” هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ” أما المحكم فهو قطعى الدلالة على غرار آيات الأحكام والعبادات والتشريع البعث والجزاء ، في حين تتعلق المتشابهات بالايات التي تتطلب قدراً من التدبر لإزالة التناقض أو ربما القصور في فهم المعنى الظاهر .
درجات الفهم القرآنى كانت الإشكالية الكبرى لدى فيما يخص ذكر الله حول المسيحيين ,,فقد اصطدمت أمواج عقلى الثائر بالتساؤلات مع نصوص الايات الحكيمة . فكما جاء فى سورة المائدة 73: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» . وفى موضع آخر ” لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ». وفى المائدة 72: «قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ”
إذن وفق تأويل المفسرين فى الثقافة الإسلامية لمسألة الألوهية والمعنى الظاهر بالآيات سنجد أنفسنا بصدد مسلمات لا ينبغي أن يطرقها التشغيب أبسطها أن التثليث شرك وأن المسيحين كفار بالنص القرآنى لكن كيف يكون التثليث شرك والله تعالى يقول في سورة البقرة ” وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ” وقد تزوج سيدنا محمد بماريا القبطية وتزوج سيدنا عثمان بن عفان بيهودية ؟ ولو كان المسيحيون كفرة فكيف أحلَّ القرآن طعامهم والزواج منهم بينما حرَّم ذلك بالنسبة للكفرة والمشركين .
يحتج الفقهاء على ذلك بأن الاية الخاصة بالتحريم في سورة البقرة وهى ” وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ” منسوخة بالاية رقم 5 بسورة المائدة” اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان” وذلك على أساس أن “المائدة ” نزلت بعد “البقرة ” وان الله قد استثنى أهل الكتاب من الكفار والمشركين .
ثمة ضرورة هنا للتدبر قليلاُ فإذا كان الله قد استثناهم ونزع عنهم هنا صفة الكفر أو الشرك وأحل طعامهم وأباح نكاح المحصنات منهم فماذا عن قولهم أن ” الله ثالث ثلاثة ” والامر شبه محسوم لاسيما وأن الاية الكريمة بدأت بـ”لقد” وهى في اللغة حرف يفيد التوكيد والتشديد والثبوت
إن أصح الطرق للتفسير-كما يقولون – أن يفسر القرآن بالقرآن وتفسير التثليث باعتباره شركاً قد لا يقبل الجدل او التأويل او اي تفسير آخر عند استقطاع او تجاهل السياق القرآنى وربط حدى الآيات ..تماماً كما يستند البعض إلى قوله تعالى في سورة الكهف قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ” للتدليل على فساد العمل ويتجاهل ارتباط الاية بما جاء بعدها والذى يكشف سبب ذلك وهو ” أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ”
قدماء المفسرين وفى مقدمتهم ابن تيمية يؤكدون أن آيات” إن الله ثالث ثلاثة ” نزلت فيمن يعتبرون المسيح ابن مريم وأمه إلهين من دون الله ,حيث يقول ابن تيمية في معرض كلامه عن الآيات ” فقوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة [المائدة: 75] عقب قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [المائدة: 73] : يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم : اتخاذ المسيح والسيدة العذراء إلهين
ويتفق الفخر الرازي فيما ملخصه: : أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والذي يؤكد ذلك قوله- تعالى- للمسيح أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقوله: ثالِثُ ثَلاثَةٍ أى: أحد ثلاثة آلهة. أو واحد من ثلاثة آلهة.
الرأي الثالث للسدى حيث يقول : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى: في آخر السورة: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك) [المائدة: 116]
التساؤل البديهى هل يؤمن المسيحيون بأن عيسى ابن مريم وأمه آلهين أم أن الايات نزلت في طائفة بعينها منهم ؟
لو حاولنا البحث والتقصى حول سبب نزول تلك الايات سنكتشف أنها نزلت بإيجاز شديد في الطائفة المريمية و هى حركة هرقطة نشأت في القرون الأولى للمسيحية , آمن بها مجموعة من المصريين يؤمنون بعقيدة التثليث في إطار ثلاثة آلهة ونادوا بأن مريم هي الهة عوضاً عن كوكب الزهرة التي هي ملكة السماء , فكانوا يعبدونها ولهذا أطلقوا على أنفسهم الـ (مريميين) أو ( الكوليريديانيين) نسبة الى الفطير الذي كانوا يقدمونه الى العذراء . وقد لجئوا الى الجزيرة العربية عقب طردهم من الكنيسة المصرية. وعاشوا بها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم نزلت بهم الآيات .
وفقاً لكل ماسبق وعند ربط الايات يتضح أن القرآن الكريم لايهاجم التثليث بالمعنى المتعارف عليه في المسيحية وهو ما سأعرضه لاحقاً لكنه يكفر الطائفة المريمية و هرطقات دخيلة على المسيحية الحقيقية، يرفضها المسيحيون أنفسهم. إذ لايوجد مسيحيى واحد على اختلاف طوائفهم يؤمن بتلك الفكرة بل يكفرون من يعتقد فيها ويعدونها إهانة في حق الله والعذراء مريم .
ومع ذلك تظل مصطلحات التثليث بالفكر المسيحى غامضة , وتبقى مفرداته التي هي الأب والإبن وروح القدس تقتضى استيعاب المجاز اللغوى وليس الحرفى والغوص أعمق من سطح الأدبيَّات الّتي نألفها ..فالذكر العزيز يقول ” وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ” وكذلك ” بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ” و” يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ” وغير ذلك من الصفات الواردة في النصوص ..فهل في ذلك تشبيه للخالق جلا وعلا بالخلق أم أنه من الرمزية و سعة اللغة وطرق مخاطبتها لتقريب الصورة الذهنية بالخطاب القرآنى ؟ .
الأمر ذاته ينطبق على النظرة المسيحية والتي تشرح الثالوث على انه واحد بثلاثة اقانيم اي ثلاث صفات ذاتية غير منفصلة احدهما عن الاخر، كما ان للانسان الحي كيان (ذات) ، وعقل (ونفس)، و(روح) لا تنفصل أثناء الحياة.. و كالشمس التي تعطي الضوء والحرارة والطاقة وهي لا تتجزأ الى ثلاث حين قيامها بهذا العطاء.
وكما نؤمن بان لله تسعة وتسعين اسماً مشتملة على صفات له سبحانه تليق به وتناسب كماله، ولا يشبهه فيها شي ، مثل: الحكيم والعليم والسميع ، كذلك المسيحية تصف الله بثلاث صفات لكيان واحد ، لأن الله وكلمته وروحه ليس ثلاث الهة منفصلة من دون الله إنما هي صفات ذاتية لله الواحد نفسه كالوجود والحياة والعلم وسموها الأب والابن والروح القدس.
القاضي أبو بكر الباقلاني الملقب بشيخ السنة،وأحد كبار علماء عصره حيث انتهت إليه رئاسة المذهب الأشعري،يقول بالصفحة 168 من كتابه “الطمس في القواعد الخمس”: “إذا أمعنا النظر في قول النصارى، أن الله جوهر واحد وثلاثة أقانيم، لا نجد بيننا وبينهم اختلاف إلاَّ في اللفظ فقط، فهم (المسيحيون) يقولون أنه جوهر واحد، ولكن ليس كالجواهر المخلوقة، ويرون بذلك أنه قائم بذاته والمعنى صحيح، ولكن العبارة فاسدة.
أما الشهرستانى فيرى في موسوعته الملل والنحل أن الله في المسيحيةهو واحد بالجوهرية، والأقانيم مثل الصفات الإلهية، وإذا كانت الأقانيم ثلاثة فإن الصفات الإلهية أكثر , بل ويذهب إلى أن وصفهم المسيح بأنه ابن الله من مجاز اللغة كما يقال لطلاب الدنيا أبناء الدنيا ولطلاب الآخرة أبناء الآخرة .
التوحيد المسيحى في جوهره هو التوحيد القرآني والإسلام والمسيحية تعترفان ان المسيح هو كلمة الله، وكما جاء بسورة العنكبوت -46 ” ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن ، الا الذين ظلموا منهم، وقولوا ، آمنّا بالذي انزل الينا ، وانزل اليكم، والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون “..إلهناً وإلهكم واحد .وليس ثلاثة
إن العلاقة الّتي طبعت الإسلام والمسيحية منذ فجر التاريخ ،هي التقارب ليس على صعيد العقيدة فحسب بل على مستويات من تلامس المشاعر والمودة وقد تجلى ذلك في سورة المائدة وهى ذاتها التي ورد بها إنكار التثليث في الخطاب الإلهى لرسولنا الكريم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.
بنهاية المطاف لو كان القرآن كله قطعى الدلالة لما كان هناك حاجة للتفكر والتدبر بغية إزالة أي شبه للتناقض أو الانفصال ..فالمعضلة الحقيقة في قصور الفهم البشرى والذى طالما استعذت الله منه كلما قرأت ايات التثليث ..كان يقينى بأن روح القرآن أعمق من كل التفاسير هو ما اعتصمت به بمواجهة تعرجات النهر الهدامة والتي من دونها كنت سأسقط في فخ الشبهات .