هبه المنسي
أدرك بشكل كاف أن الجملة قد لاتروق لكم .. وأن ثمة أصوات ستعترض على مجرد القياس على الحديث الشريف ” إن أبغض الحلال عند الله الطلاق ” . لكن رفقاً بى .. فليست سوى تعبير مجازى اعتدت على استخدامه لأعرب عن رأى فى مسألة تعدد الزوجات ولتقريب الصورة .
صدمت كالكثيرين بالفيديو الذى انتشر كما النار فى الهشيم على صفحات التواصل الاجتماعى للسيدة التونسية التى قررت الزواج برجيلين مستندة إلى أن القانون التونسي الذي يمنع على الرجال تعدّد الزوجات، يسمح في المقابل للنساء بالزواج من أكثر من رجل، وعبّرت عن سعادتها بكونها أول امرأة تونسية ستتزوج رجلين.
وبغض النظر عن ملابسات القصة والهدف من ورائها والتعليقات التى أفزعتني وتتنافى تماما مع فطرة المرأة والتى أظن أنها ليست سوى انعكاس لحالة الامتعاض الأنثوى من فكرة التعدد وما تطل علينا به الأصوات النشاز من آن لآخر .
فإن الإباحة المطلقة واعتبار أن التعدد هو الأصل فى الإسلام استناداً إلى الآية الكريمة ” فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ” يتجاهل السياق الظرفى والتاريخى ..والقارىء لتاريخ العرب قبل الإسلام يدرك أن تعدد الزوجات كان منتشراً فى الجاهلية ,إذ لم يكن هناك حد أقصى لعدد الزوجات أو المحظيات , وجاء التشريع الآلهى لتقييد هذا العدد و وهناك من السنة وكتب السيرة ما يبرهن على ذلك حيث روى الإمام البخاري – رضي الله عنه – بإسناده أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( اختر منهن أربعا ) . وروى أبو داود – رضي الله عنه – بإسناده أن عميرة الأسدى قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال : ( اختر منهن أربعا ) .
إذن كان التعدد مطلقا بلا أية حدود أو ضوابط أو قيود وجاء الإسلام للحد منه .. لكن ما الدليل على الكراهة .؟ سنتوقف قليلاُ .عند نقطة قد تبدو أنها منفصلة عن القضية غير أنها ذات صلة وثيقة يها .
لقد نزلت معظم التشريعات فى الإسلام على نحو متدرج .. كالصيام والخمر وغيرها .. لتلائم طبيعة النفس الإنسانية والسياق المجتمعى فضلاً عن أن هناك الناسخ والمنسوخ ..بمعنى أن حكماً ينسخ آخر .. فقد كان تحريم الخمر بداية الأمر فى الصلاة بقول الله ” ولاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى ” ثم جاء التحريم القاطع بـ ” ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) .
وبالقياس .إذا ما طبقنا مبدأ التدرج فى الخطاب والذى سنه التشريع ليلائم السياق المجتمعى حينذاك ..سنلاحظ أن الآية بدأت بـ” مثنى وثلاث ورباع ” ثم جاء التحذير “وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” وفى آية أخرى من نفس السورة كان الجزم الإلهي بـ ” ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ” ولن فى اللغة العربية تفيد استمرار النفى فى الحاضر وتأكيده فى المستقبل بما يعنى أن الاية تقرر بنصها أن العدل بين الزوجات أمر خارج عن قدرة المكلفين .
أما من يتعللون بأن العدل هنا المقصود به الميل العاطفى ..وأن الأمور القلبية خارجة عن إرادة الإنسان وطاقته، فلا يتأتَّى العدل فيها، إذ لا سلطان للإنسان عليها. فإنهم بذلك وإن كان فهمهم ملتبساً ,لايظلمون المرأة ,فحسب بل ويجردونها من كل وازع عاطفى و الظلم ممنوع في الشريعة ومدفوع، وهو ظلمات يوم القيامة.
والنبى صلى الله عليه وسلم الذى يستدلون لهذا التوجيه في الآية، بسبب نزولها، وهو ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك) يعني القلب .. قد خصه ربه جل جلاله بأن أجاز له أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة وكان ذلك لضرورات ومصالح ملموسة راجحة اجتماعية وسياسية لامجال للخوض فيها الآن ..فضلاً عن أنه لم يتزوج على السيدة خديجة أحداً من النساء في حياتها لكن عندما اقتضت مصلحة الدعوة جمع فى عصمته تسع زوجات وتلك من خصوصيات النبى ..وأعتقد أن الأمر فى ذلك شبه محسوم ..فليس بيننا اليوم نبى أو معصوم !
كما أن الرسول ذاته رفض أن يجمع الإمام على بين ابنته وبين ابنة أبي جهل والقصة كما وردت فى كتب السيرة أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ لَهُ : إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحًا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ .
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ : ( أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي ، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي ، وإِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا ، وَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا”..وفى رواية أخرى ” طلقها فإن ما يؤذيها يؤذينى ”
إذن فى التعدد إيذاء للمرأة باعتراف النبى الأعظم , وهو لايحل حراماً ولا يحرم حلالاً , بيد أنه كره أن تؤذى مشاعر ابنته ونهى علياً عن ذلك لكمال شفقته على السيدة فاطمة الزهراء والغيرة من الأمور التي جبلت عليها المرأة , وكان من الأولى أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته بمجاهدة النفس كما يطالب سلفيو العصر النساء ..أليست سيدة نساء العالمين أحق بهذه الدرجة من جهاد النفس ؟ ألم تكن أولى من المؤمنات من أنفسهم ؟ ولماذا لم يأمرها النبى بذلك؟ .
إن إشكالية العقل الإسلامى فى اجتزاء النصوص من سياقها الزمنى والاجتماعى , فى تجاهل ظرفية الآيات والأحاديث , والركون إلى ظاهر النصوص دون الإمعان فى أسباب النزول ولعل هذا ما أفرز اليوم الجماعات المتطرفة التى شرعنت الانتحار وجعلت من القتل فريضة ومن التكفير سنة .
لقد نزلت آيات التعدد مشروطة و مقرونة باليتامى والآرامل وتم تفسيرها كغيرها بمعزل عن السبب الجوهرى للنزول ،.فالأصل في القرآن الكريم هو: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)» وبمجرد الخوف من عدم العدل أو الظلم أو الضرر لا يكره التعدد فقط , بل يحرم .لذا استطيع القول بكل أريحية : إن أبغض الحلال عند الله التعدد